الثري الأمريكي الذي نصح الرئيس الأمريكي بالاستفادة من تجربة الملك عبدالعزيز في العلاقات الدولية

 

تعد المراسلات المتبادلة بين الحكومات الغربية ومواطنيها الزائرين للمملكة العربية السعودية مصدرًا مهمًّا من مصادر التاريخ الوطني لما تحمله من معلومات مستقاة عن قرب وممارسة، خصوصًا تلك التقارير المرسلة من أفراد قابلوا الملك عبدالعزيز -رحمه الله- واطلعوا على أسلوبه في إدارة الحكم في بلاده الناشئة، كما أن تلك المراسلات تعطي الباحث العربي فرصة لمعرفة وجهة نظر غربية مستقلة عن الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية السائدة في ذلك الوقت، مما قد يساعد في فهم الأسلوب الغربي في التعاطي مع قضايا الأمة العربية.

رجل الأعمال الأمريكي الثري تشارلز كرين (Charles Crane) كان من بين تلك الشخصيات الغربية التي زارت المملكة العربية السعودية وقابلت الملك عبدالعزيز، وكانت زيارته في شتاء عام 1931م محاولة منه لدراسة مدى إمكانية استثمار أمواله في مجالات التنقيب عن المعادن، والمشروعات الزراعية وغيرها من المجالات الاقتصادية المتنوعة في البلاد، مما جعل من تلك الزيارة محط اهتمام من صانع القرار الأمريكي، لذلك راسل هذا الثري الزائر الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت في 21 يناير 1939م، عندما بدأت الولايات المتحدة الأمريكية بالاهتمام بمنطقة الشرق الأوسط كمنطقة ذات أهمية إستراتيجية كبرى لها.

عثر الدكتور عبدالفتاح حسن أبو علية أستاذ التاريخ في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية على تلك الوثيقة لدى بحثه في الأرشيف الوطني الأمريكي بواشنطن أثناء إعداده رسالة الدكتوراه، وخصص لها بحثًا مفصلًا تحت عنوان (رسالة من تشارلز كرين إلى الرئيس روزفلت يصف فيها الملك عبدالعزيز) نُشِر في مجلة (الدارة) التابعة لدارة الملك عبدالعزيز في عددها الأول من سنتها الثالثة في عام 1397هـ (1977م)، حيث أشار في بحثه إلى أهمية تلك الوثيقة التاريخية لتعبيرها عن الرؤية الأجنبية الغربية لشخص الملك المؤسس، ولأنها تحمل وصفًا مبنيًّا على مقابلات تمت بين الملك وكرين نفسه الذي أقام لمدة أسبوع في الضيافة الملكية التي أتاحت له الاجتماع بعاهل البلاد العربية مرَّات كثيرة، كما تعطي الوثيقة صورة واقعية عن مدى الاهتمام الذي توليه الولايات المتحدة الأمريكية لإنجازات الملك عبدالعزيز في الجزيرة العربية وتأثيرها في الصعيد العالمي.

ونص الرسالة التي وجهها كرين للرئيس روزفلت في وصف الملك عبدالعزيز هو:

( بالم سبرينق، كاليفورنيا

21 يناير 1939

عزيزي الرئيس

تقول الصحف هنا إنك تلقيت اتصالًا من ابن سعود، وحيث تَهَيَّأ لي مرة زيارة غير عادية له، وقمتُ بدراسته تمامًا كشخصية إسلامية رفيعة وغير عادية، أود أن أخبركم عنه شيئًا أو شيئين غير معروفين جيدًا، على الأقل للعالم الغربي.

إنه الرجل الأهم الذي ظهر في الجزيرة العربية منذ مدة حكم ]النبي[ محمد، وهو محافظ شديد، ويدير شؤونه وحياته وحكومته بقدر ما كان يمكن أن يفعله ]النبي[ محمد، لقد عاد إلى حدود موطنه الأصلي واستعاده عندما كان عمره تسعة عشر عامًا فقط، وكان يوحد معه من وقت لآخر أجزاء من الجزيرة العربية حتى أصبح الآن القوة العليا فيها.

لطالما كان يسترشد بمبادئه الصحراوية القديمة التي أكد عليها ]النبي[ محمد كثيرًا، وبذل كل ما في وسعه وبأكثر الطرق الودية للتوافق مع أعدائه بمجرد انتصاره عليهم، لقد رأيت العديد من أعدائه السابقين وأعرفهم ولاحظت فيهم المودة والولاء الكبيرين والواضحين له.

في حديث معه عن طريقة معاملة أعدائه السابقين وموقفهم تجاهه، قال إنه لم يكن هناك شيء طوال حياته يهمه أكثر من جهوده للتوفيق بينهم وجعلهم سعداء قدر الإمكان، وهذا الأسلوب مختلف تمامًا من ذلك المهيمن على معاهدة فرساي، يمكن للمسلمين المحافظين أن يظهروا للمسيحيين الأوروبيين كيفية صنع السلام الحقيقي إذا كانوا قادرين على استيعاب الدرس من المسلمين.

من المؤكد أن أسبوعي مع ابن سعود -الذي أتيحت لي فيه رؤيته ثلاث مرات في اليوم ودراسته بعناية، واستبياني منه عدة مرات كان الرد في معظمها بأسلوب عصري- هو أغنى تجربتي التي أتمنى وجود طريقة لتمريرها لك.

تحية لطيفة

تشارلز كرين)

إن أبرز ما يثير الانتباه في الرسالة هو دعوته للعالم الغربي للاستفادة من تجربة الملك عبدالعزيز المستمدة من الثقافة العربية الإسلامية في التعامل مع أبرز المعضلات الدولية ومسائل الحرب والسلام والاستقرار العالمي، حيث يوحي في رسالته إلى أن النظام الدولي ينبغي أن يعيد النظر في التعامل مع الطرف الخاسر في أي صراع بحيث يتم احتواؤه بلطف وإنسانية، منعًا لتجدد الصراعات، وللاستفادة من قدراته المتوافرة لديه وتوجيهها نحو التعاون المشترك وصنع السلام الدائم، وإلغاء مبدأ الانتقام في النظام الدولي الذي رآه متجسدًا في معاهدة فرساي (28 يونيو 1919م) التي فرض فيها الحلفاء المنتصرون في الحرب العالمية الأولى اتفاقيات منفصلة شديدة القسوة على القوى الرئيسة الخاسرة في الحرب، مما كان سببًا مباشرًا في عودة الحرب العالمية مرة أخرى.